الهوية الوطنية …صراع بين الضياع والوجود
طلال عامر الشمري
إن ما يميز الشعوب بقوتها وتماسكها ورقي وتطور بلدانها هو وجود الهوية الوطنية الواضحة لتلك الشعوب، والتي يختلف الكثير في تفسيرها وتعريفها وقد رأيت أفضل تعريفاً لها: (أن المقصود بالهوية الوطنية في معناها العام، ذلك الشعور الجمعي المشترك والشامل لمواطنين في دولة ما، الذي يقربهم من بعضهم البعض، ويولد لديهم حس بالانتماء للأرض التي يعيشون عليها، ويعزز الحاجة المشتركة للتعايش معا إلى حد ربطهم بمصير واحد) وهنا نجد بأن هذا الشعور لا يأتي من فراغ أو بشكل سهل، بل هو ناتج عمل دؤوب للحكومات الوطنية ويأتي في أولويات عملها وجعلها الركيزة الأساسية في سياستها التعلمية والاقتصادية والأمنية والإعلامية لتستطيع من خلال كل ذلك خلق رؤية شاملة لتنمية مبادئ وقيم الهوية الوطنية لدى الأجيال الناشئة
وخلق أفراد يعتزون بهويتهم الوطنية وتكون لديهم القدرة عل استيعاب قيم التسامح والانفتاح على الثقافات الأخرى.
إن هذه الأولويات لا زلت أراها غائبة منذ تأسيس (الدولة العراقية) وتلك الحقبة التاريخية التي لها أسبابها المعروفة لدى الباحثين ولست بصدد البحث أو الخوض عن تلك الحقبة ,بل ما أود الإشارة والبحث فيه هو وقتنا الحالي الذي نعيشه الآن دون الرجوع والغوص في أعماق التاريخ ودهاليزه ,حيث أرى لم تستطع أي حكومة ما بعد عام ٢٠٠٣ وضعها في سجل أولوياتها والعمل لإبرازها، لأن النظام السياسي في العراق المعاصر قائم على المحاصصة السياسة التي أسس لها الاحتلال الأمريكي وصارت عرفًا حتى هذه اللحظات، محاصصة المناصب والسلطة ومركز القرار،
وهذا يمكن اعتباره أوضح دليل على عدم وجود هوية وطنية حقيقية واحدة، بل هي مؤشر واضح لوجود الهويات الفرعية الأقوى سواء القومية أو الدينية (المذهبية) .
إن المحاصصة زرعت قواعد الهوية الفرعية وجذرتها وزادت من تهميش وتحطيم صورة الهوية الوطنية العراقية الواحدة التي نريد أن نراها كما أشرنا في بداية المقال ,إن المحاصصة وما أنتجته من ظروف سياسية جعلت هاجس عدم الثقة بين المكونات العراقية والخشية من أن ينفرد مكون ما دون غيره، سواء هذا المكون قومي أو ديني بل وحتى مذهبي، بالسلطة والقرار والمال، ويقصرها على جمهوره فقط، ويقصي المكونات الأخرى ويهمشها أو يعرضها لمصير مجهول أو الانتقام منها. وهذا نراه الآن واضحا أن كل من في السلطة يحاول أن يحمي نفسه ووضعه السياسي والاجتماعي من هيمنة واضطهاد المكونات الأخرى بل حتى الحركات أو التيارات داخل المكون نفسه أصبحت تخشى التهميش بعضها من بعض فأخذت تتصارع فيما بينها للتسلق على السلطة والقرار والنفوذ كي تأمن عدم تهميشها من قبل تيار أو حزب آخر داخل ذات المكون العرقي أو المذهبي خوفا من انتقامه وكذلك هي في ذات الوقت تعمل على محاولة الهيمنة على السلطة ومركز القرار حتى تنتقم هي أيضا من ذاك التيار أو الحزب
بوضوح جدا نرى جميعنا هذا الصراع يبرز ويتجدد في كل دورة انتخابية سواء كانت برلمانية أو مجالس المحافظات لتولد لنا حكومات بمخاض عسير لا تستطيع أن تبحث أو تفكر لتحقيق طريق نحو الهوية الوطنية والاستقرار السياسي الدائم
يقول المفكر اليساري أحمد أمين (لإيثار سؤال الهوية في بلد من البلدان إلا حين تكون الهوية في أزمة مجتمعية كاملة) لهذا مسؤوليتنا كنخب ومثقفين أن نقف بكل إمكاناتنا لخلق هوية وطنية تناسب تنوعنا الجميل الذي خلقه الله عز وجل وتاريخنا الكبير ودماء شهدائنا المضحين، وان لا نسمح لمن يحاول أن يستنسخ هويات غريبة لا تتوافق مع مجتمعنا وخصوصيته…
لا يتحقق هذا إلا ببناء نظام دستوري عادل بعيد عن كل أشكال المحاصصة يتساوى فيه الحاكم والمواطن البسيط ويحافظ فيه على المكتسبات والثروات الطبيعية والبشرية وبناء دولة المواطنة الحديثة الخالية من التأثيرات الخارجية الدولية والإقليمية لتكون الهوية الوطنية راسخة في ضمير المواطن وشعوره وخلق روح التعاون والمحبة والخير والتفاني وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة