المال السياسي وغياب أصحاب الأيادي البيضاء: معركة غير متكافئة في الانتخابات
أ.د.فاضل عبدعلي خرميط
تشهد الساحة السياسية العراقية كل دورة انتخابية موجة جديدة من الوعود والدعايات، لكنها كثيرًا ما تترافق مع هيمنة المال السياسي، الذي أصبح بديلاً عن البرامج الانتخابية الرصينة والنوايا الوطنية الصادقة. وفي ظل هذا الواقع، يصعب على المرشحين أصحاب الأيادي البيضاء الذين يتمتعون بالنزاهة والصدق ولا يعتمدون على شبكات النفوذ خوض المنافسة بشروط عادلة. فهم غالبًا ما يُستبعدون من الساحة، ليس لأنهم غير مؤهلين، بل لأنهم غير قادرين على تحمل أعباء السباق الانتخابي ماليًا وتنظيميًا.
الفارق في الإمكانات:
الواقع يشير إلى وجود تفاوت كبير في الإمكانات بين المرشحين المدعومين من أحزاب كبيرة أو رجال أعمال نافذين، وبين المستقلين أو الوطنيين الصادقين. المرشح الذي يمتلك المال يستطيع أن يؤسس مقرًا فاخرًا، ويطبع آلاف اللافتات، ويموّل حملات إعلامية عبر الفضائيات ومواقع التواصل، بل ويتمكن أحيانًا من شراء أصوات بعض الناخبين من خلال “هدايا” أو “مساعدات”
. أما أصحاب الأيادي البيضاء، فغالبًا ما يضطرون للاعتماد على الموارد الشخصية المحدودة، أو حملات تطوعية لا تغطي سوى نطاق ضيق، مما يضعف فرصهم في إيصال أفكارهم وبرامجهم إلى جمهور أوسع.
التحديات اللوجستية والتسجيل في المفوضية:
التسجيل في مفوضية الانتخابات يمثل أول الحواجز أمام المرشحين المستقلين. فإجراءات التسجيل تتطلب دفع رسوم مالية، وتوفير مستندات قانونية، وامتلاك مقر رسمي للحملة. إلى جانب ذلك، هناك حاجة لفريق إداري لمتابعة المعاملات مع المفوضية، ومراقبة سير العملية الانتخابية. هذه المتطلبات قد تكون سهلة على كتل تمتلك تمويلاً جاهزًا، لكنها تشكّل عبئًا حقيقيًا على المرشحين الذين لا يدعمهم حزب أو جهة سياسية. وهكذا، تكون البيروقراطية بوابة أولى لإقصاء كثير من الوجوه الوطنية.
أمثلة واقعية من الساحة العراقية:
في انتخابات 2018 و2021، برز عدد من المرشحين المستقلين الذين استطاعوا إحداث اختراق نسبي، مثل ما حدث في بعض دوائر بغداد والناصرية، حيث فاز مرشحون بأصوات عالية رغم عدم امتلاكهم للمال السياسي. لكن بالمقابل، كانت هناك مئات الأسماء التي انسحبت في مراحل مبكرة بسبب عجزها عن تغطية النفقات أو الوصول للناخبين إعلاميًا وتنظيميًا. كما شهدت تلك الدورات انتشار ظاهرة “شراء الذمم”، حيث وُثقت حالات دفع أموال لقاء بطاقات الناخب أو تأييد علني، وهو ما يقوض أي فرصة حقيقية للتنافس الشريف.
غياب الأيادي البيضاء: خسارة للمجتمع وفرصة للتغيير:
عندما تُقصى الكفاءات الوطنية من المشهد، يخسر المجتمع فرصة ثمينة للتغيير الإيجابي. فهؤلاء المرشحون غالبًا ما يكونون من أبناء الشعب الذين عاشوا معاناته، ويعرفون مشاكله الحقيقية، ولديهم الرغبة في الإصلاح لا لتحقيق مكاسب خاصة، بل لخدمة الناس. غيابهم لا يترك فقط فراغًا تمثيليًا، بل يُرسّخ قناعة خطيرة لدى الشارع بأن العمل السياسي حكر على من يملك المال والنفوذ، مما يزيد من نسبة العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات، ويعمّق الإحباط العام. لكن رغم صعوبة الظروف، فإن الانتخابات تبقى فرصة لتجديد العقد الاجتماعي بين الشعب وممثليه، ولن تكون عادلة ما دامت مفاتيح الترشح محصورة بيد من يملك المال. إن غياب أصحاب الأيادي البيضاء لا يعني أنهم غير موجودين، بل إنهم محاصرون ومغيبون عن المنصات المؤثرة. وعلى المواطن الواعي أن يميز بين من يسعى إلى الكرسي بأي ثمن، ومن يسعى إلى خدمة بلده بأي وسيلة. فالتغيير يبدأ من صندوق الاقتراع، لكنه لا يكتمل إلا بوعي الناخب وقوة إرادته.
ما المطلوب اليوم؟
- تبنّي دعم جماهيري تطوعي منظم، سواء من خلال حملات تبرعات بسيطة أو فرق عمل مجتمعية تنظم الجولات الانتخابية والترويج.
- تقليل كلفة التسجيل والإجراءات المفروضة من قبل المفوضية، بما يتيح فرصًا متساوية للجميع دون تمييز.
- تفعيل الدور الرقابي الإعلامي لتسليط الضوء على المرشحين المستقلين ومنحهم فرصًا عادلة لعرض برامجهم.
- نشر ثقافة انتخابية مسؤولة، تقوم على تقييم المرشح بناءً على تاريخه وسيرته الذاتية وخطابه الوطني، وليس على قدرته على الصرف أو الانتماء الحزبي.