من العراق إلى غزة… لماذا الشيعة؟
صفاء رشيد
في السابع من أكتوبر، كنتُ داعمًا لحركة حماس “السنّية” في وجه العدوان الإسرائيلي في “طوفان الأقصى”، كما دعمتُ حزب الله “الشيعي” في لبنان، واصطفيت إلى جانب إيران خلال “الوعد الصادق 1″ و”حرب الأيام الـ12”. موقفي لم يكن متغيرًا بتغير الطائفة أو الجهة، بل امتدادًا لمبدأ أخلاقي وإنساني وسياسي في آنٍ واحد، فذلك الكيان الذي أصبح آلة حرب في المنطقة هو طرف الصراع، ويمثل تهديدًا أخلاقيًا لما يرتكبه من جرائم وحشية بحق الأطفال والنساء والمدنيين، وتهديدًا سياسيًا لخرقه القوانين والمواثيق الدولية، كما يُعدّ خطرًا على الإنسانية لاعتماده على أيديولوجيا دينية توسعية تُقصي الآخر.
خلال “حرب الـ12 يومًا”، تعرضتُ لمختلف الاتهامات، كوني كنت جزءًا من جبهة تُساند كل من أطلق صاروخًا أو رصاصة أو حجرًا أو كلمة ضد إسرائيل. آنذاك، كنت أتجنب الرد على محاولات تشتيت الانتباه عن جرائم هذا الكيان. واليوم، وقد انقشع غبار الصواريخ، حان وقت الكلام.
لا يمكن للإنسان أن يتخذ موقع الحياد حين يكون أحد أطراف الصراع مجرم حرب موثق، يمارس إبادة جماعية ويستند في عقيدته إلى موروث عنصري إقصائي. الحياد في هذه الحالة ليس تعاليًا، بل انحدار أخلاقي وتجرد من المبادئ. لذلك، لم أجد لنفسي مكانًا بين “المحايدين”، ولم أشأ أن أكون شاهد زور في لحظة تتقاطع فيها القيم مع المذبحة. الحياد في المواقف الأخلاقية هو تشرذم قيمي ومسخ إنساني.
وصفتها بـ”الأخلاقية” لأن أحد أطراف النزاع مارس جرائم حرب ضد الإنسانية، وسعى إلى إبادة طائفية قائمة على موروث ديني عقدي إجرامي. لذلك، لم أجد في “التحفظ” أو “الحياد” ما يليق بكرامتي ومبادئي.
في عزّ المتابعة اليومية للأخبار داخل غرفة صنعتها مع أصدقاء يشبهونني، كانت التلميحات والاتهامات تتكاثر من الداخل قبل الخارج.
شعرنا بظلمٍ كبير، ليس فقط من سياسة إسرائيل وحلفائه الغربيين او العرب على حد سواء، بل من بعض أبناء جلدتنا ممن انخرطوا باندفاع ساذج في حملة تسفيه للموقف المناهض لإسرائيل، وأدوا أدوارًا لم تنجح بها حتى “البروباغندا الإسرائيلية الناعمة” التي تتبنى خطاب التقارب مع إسرائيل. تلك التي تسعى إلى استقطاب مشاعر العرب تجاه مستوطنات قائمة على أرض مسروقة، وتسمّي ذلك براعة سياسية. بينما هذا الكيان لا يقيم وزنًا للخاضعين، بل يراهم أدوات رخيصة يمكن التلاعب بها.
كان هناك من يسعى إلى شيطنة الموقف المناهض لإسرائيل، من خلال ربطه بإيران وكأنّ موقفنا كعراقيين ضد هذا الكيان بدأ مع “حرب الـ12 يومًا”! هذا اختزال ساذج وتضليل فاضح، خصوصًا حين يصدر عن عقولٍ تعاني من جهل مركّب.
لماذا الشيعة؟
استهدفت حملات التسفيه بشكل خاص “الشيعة”، كونهم الكتلة الأبرز في مساندة قوى المقاومة ضد إسرائيل. هذا المكوّن الذي كان دومًا في طليعة المدافعين عن القضايا العادلة والوطنية، دون انتظار لتوجيه من أحد، وقبل أن تدخل إيران إلى المشهد. البوصلة كانت “الحق”، لا غير.
نعم، هناك من يتبنى الموقف الإيراني بطريقة فجّة، لكنهم لا يمثلون شيعة العراق. فقد فضحت الأحداث الوطنية انتهازية بعض السياسيين المحسوبين على هذا الجمهور، ممن تحكمهم المصالح ويتصرفون ببراغماتية مفضوحة، ولا يجوز تحميل الجماهير وزر خياراتهم.كما لا يعني هذا أن المكوّنات الأخرى لا تمتلك مواقف مشابهة، لكن في كل مرة يتخذ فيها الشيعة، تحديدًا، موقفًا واضحًا ضد إسرائيل ومساعيها لمسخ الهوية العربية والإسلامية، يُقابل ذلك بحملات تسفيه وتشكيك.
يريد البعض ربط كل موقف “شيعي” مناهض لإسرائيل بإيران، وكأن “العراقيين الشيعة” لا يملكون وعيًا سياسيًا مستقلًا! هذا اختزال فجّ لتاريخ طويل من الرفض الشعبي العراقي، وهو محاولة لتقزيم وجدان جماعي تأسس على مناهضة الظلم. فهل نحتاج أن نعيد التذكير بسردية “هيهات منّا الذلّة”، التي ما زالت تحكم المزاج الجمعي الشيعي حتى اليوم؟
صحيح أن إيران ألحقت ضررًا كبيرًا بالعراق خلال العقدين الماضيين، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون ذريعة لتشويه كل من يناهض إسرائيل أو يتضامن مع شعب أعزل يُقصف يوميًا. فإسرائيل مجرمة، وهذه حقيقة لا تتغير لمجرد أن إيران تقولها. القضية الفلسطينية لا تفقد عدالتها لأن نظامًا سلطويًا يتاجر بها.
فلسطين ليست قضية إيران… بل اختبار للوعي العراقي
الوقائع التاريخية تفنّد كل محاولات ربط المواقف الشيعية بإيران. الشيعة العراقيون لم يترددوا يومًا في التعبير عن تضامنهم مع فلسطين رغم اختلافاتهم المذهبية والعقائدية. وهذا يعكس بعدًا إنسانيًا عابرًا للطوائف، لا يمكن إنكاره أو تسفيهه.
أولئك الذين يوزعون صكوك الوطنية، يتجاهلون أن قادة أبرز موجات الاحتجاج العراقي منذ عام 2008 حتى حراك تشرين 2019 كانوا من الشيعة، ولم يترددوا في مهاجمة إيران سياسيًا. بل إن القنصليات الإيرانية أُحرقت في النجف وكربلاء والبصرة. فكيف يمكن بعد كل هذا ربط موقفهم من إسرائيل بإملاءات إيرانية؟
لماذا الريبة فقط حين يُعبر “الشيعة” عن موقفهم تجاه إسرائيل؟ هل يُصبح الموقف نبيلًا فقط حين يصدر عن أنظمة شوفينية استبدادية كصدام حسين، الذي كان يرفع راية تحرير فلسطين بينما تفيض زنزاناته بأبناء العراق؟ ذلك تشابه واضح مع ما تفعله إسرائيل اليوم.
مناهضة إسرائيل ليست موقفًا مستوردًا ولا دخيلاً عند العراقيين، بل امتداد طبيعي لسرديتهم التي تمتد من كربلاء إلى غزة. نعم، إيران تستغل القضية الفلسطينية لمصالحها، وتوظّفها في مشروعها الإقليمي، بل أساءت كثيرًا للعراق ولقضية فلسطين على حد سواء. لكن هذا لا يمنح إسرائيل صك البراءة، ولا يمنح المتخاذلين غطاء لتجريد العراقيين من ضميرهم.
من حق العراقي أن يرفض إيران، ومن حقه أيضًا أن يناهض إسرائيل. فالمواقف النابعة من المبدأ لا تحتاج إلى وسيط، بل إلى وعي وشجاعة وضمير، وهذا ما امتلكه العراقيون، ولا سيما الشيعة، منذ زمن بعيد.
ما فعلته إيران يجب ألا يكون مبررًا لخذلان فلسطين، ولا ذريعة للصمت على تمدد إسرائيل. فللعراقيين، وخصوصًا شيعتهم، مواقف مشهودة، سبقوا فيها الأنظمة والشعارات.
شيعة العراق عراقيون، وإن وُجد بعض الموالين لإيران من قادة الجماعات المسلحة أو الإعلاميين أو السياسيين، فإنهم لا يمثلون سوى أنفسهم، لا أبناء الوسط والجنوب، فامتدادهم يتعدّى إيران ونظامها وثورتها، ويستمد خطّه المبدئي من سردية عاشوراء، ومن نقش محفور في عقولهم وقلوبهم بشعار “هيهات منا الذلّة”.