وهم المثالية… مابين الواقع والمواقع
مهدي خلف
سافرت مخيلتي بمعية أحاديث أحد الأجداد أطال الله بقاءه واصفاً لي ما كان عليه حالهم سابقاً ،حيث زُهد العيش عندهم وبساطته فقد كان غالبهم السائد جلّ مايملكه هو قوت يوم وملبسان أحدهما للصيف و الآخر للشتاء فلا عيش مرفه ،ولاسيارات فارهة،ولابيوت عالية قلوبهم أكبر من منازلهم وعقولهم أوسع ادراكاً من أن تُحدّ بدار فناء ، يقوم رب أسرتهم بتأمين قوت اليوم إما الغد فهناك رب كريم واسع العطاء يتوكل بمأونتهم لليوم الذي يليه وهذا مايعززه أبيات شعرية نُسِبت للشافعي :
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء
اذا ماكنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
وهذا مما يدلّ على رضاهم المطلق وتسليمهم التام لله فقد كان يومهم سعيداً فكنزهم الدائم قناعة لاتفنى بموجود العيش وبساطة الحال كونه السائد عندهم وكيف لا يكونون كذلك وقد كان قدوتهم وهو الذي يأتيه خراج كل المسلمين وأبي إلّا أن يكتفي بماقال ( ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه).
الغريب أنهم رغم قلة المؤنه وصعوبة الحال كانت السعادة على محياهم والقناعة تملأ أرواحهم والعزة في نفوسهم ،فلم نسمع منهم أن عانى أحدهم من إكتئاب حاد أو أزمة نفسية كبرى أودت به الى مرض صحّي عضال أو الى الانتحار وأذية النفس بسبب عدم الرضا.
عاد بي التأمل بعدها حيث حالنا الآن في عصر مواقع التواصل الإجتماعي التي أفسدت (العادي منا ) فقد أصبح المجتمع كل المجتمع متطرفاً جداً فالكل أصبح يبحث عن المثالية وأن يكون هو العنصر القدوة والنموذج الأمثل للمجتمع ، لا أن يعيش ببساطة و وسطية .
تجده قليل القناعة شديد التململ يقضي يومه بمأكل لم يذقه هارون وبمركب لم يركبه كسرى وببيوت لم يسكنها أعتى ملوك الأرض سابقاً إلاّ أنه يعتريه شعور عدم الرضا الدائم وفقدان القناعة فهو مثلاً يمتلك قوت عام ويخاف الإفتقار خزانتة ملىء بالملابس ويخاف العُري وهذه التعاسة الدائمة ناجمة عن (مقارناته المستمرة ) فكلما نضر لماملك الأخرون قارن بينه وبين الذي بين يديه ،ففسدت قيمة الاشياء عنده وتعاظم في نفسه شعور النقص الدائم الذي يعتريه فيركض مسرعاً لاهثاً لسد هذا النقص المفتعل, فغالباً مايقارن حياته التي يعرفها ويعرف خفاياها وأسرارها بمايقوم به المشاهير الذين دائماً مايكون سعيهم هو إظهار الجانب المشرق والمثالي فقط من حياتهم مع حجب تام لكل الجانب الاخر والمظلم فمن غير المنطقي جداً ان تكون حياته بالمثالية التامة لهذ الحد ،تجدهم كثيرون التصنع للترف والسعادة يصرفون أموال طائلة على قشرتهم الخارجية لكي يقنعوا المتلقي بوهم مثاليتهم المصطنعة والمزيفة.
خلاصة القول أوصي نفسي أولاً وأوصيك أخي القارئ بأن لاتذهب لحضات حياتك وسويعات عمرك سدى في خلق الزيف من لحضات السعادة المصطنعة أمام الناس أو أن تجهد نفسك لخلق نسخة أخرى مصطنعة منك اكثر مثالية ،كن انت كما انت كن عاديا كن وسطياً فخير الأمور اوسطها .
أنا و أنت عزيزي القارئ متفقان تماماً بأن المقارنة مفسدة لمتعة الأشياء وسرطان الحياة تدمر كل شيء بأمر ربها ،وأن من ظُلم ابن آدم لروحهِ وإجحافه بحقها ان يقارن مايملك بما لايملك .