“ظاهرة المحتوى الهابط: بين الانحدار الرقمي وغياب المسؤولية”
حيدر القريشي
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، أصبحت المنصات الإلكترونية ساحة مفتوحة للجميع، يتشاركون من خلالها الأفكار والمواقف والتجارب. لكن هذا الانفتاح، الذي مثّل في بدايته فرصة لحرية التعبير وتبادل المعرفة، سرعان ما انقلب في بعض جوانبه إلى فوضى رقمية، كان من أبرز تجلياتها ما يُعرف بـ “المحتوى الهابط”؛ ذلك النوع من المواد الرقمية التي تفتقر إلى القيمة، وتتسم بالسطحية أو الابتذال، بل وقد تتضمن رسائل ضارة أو مضللة.
أولاً: كيف ولماذا انتشر المحتوى الهابط؟
انتشار المحتوى الهابط لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تداخل عوامل عدة، أبرزها:
• الحرية الرقمية بلا وعي: منح الإنترنت المستخدمين مساحة واسعة للتعبير، لكن دون وجود وازع ذاتي لدى البعض، تحوّلت هذه الحرية إلى أداة للتسابق نحو لفت الأنظار، ولو على حساب الذوق العام أو القيم المجتمعية.
• غياب الرقابة الجادة: العديد من المنصات تعتمد على خوارزميات تروّج لما هو رائج (Trend)، وليس لما هو نافع. هذا منح المحتوى الهابط فرصة للانتشار، خصوصاً إذا ارتبط بردود أفعال ساخطة أو مشاركة واسعة.
• هوس الشهرة والربح السريع: في ظل تراجع معايير الجودة أحيانًا، يلجأ البعض إلى تقديم محتوى مستفز أو مبتذل، فقط لتحقيق مشاهدات عالية تُترجم لاحقًا إلى أرباح مالية أو “فولوورز” أكثر.
ثانيًا: التأثيرات على الفرد والمجتمع
• تشويه وعي الشباب: فئة المراهقين والشباب هم الأكثر استهلاكًا للمحتوى الرقمي، وبالتالي فهم الأكثر تأثرًا به. المحتوى الهابط قد يغذي لديهم نماذج سلوك سلبية أو قناعات مشوهة حول النجاح أو العلاقات أو حتى مفهوم الحرية.
• تآكل القيم الاجتماعية: من خلال تكرار الطرح السطحي أو المثير للجدل، يُسهم هذا النوع من المحتوى في إضعاف الذائقة العامة وتقويض معايير الذوق والأخلاق في المجتمع.
• المخاطر التقنية والأمنية: بعض المحتويات الهابطة تترافق مع روابط مجهولة أو تحديات رقمية قد تؤدي إلى اختراقات أمنية أو خداع المستخدمين.
ثالثًا: كيف نواجه هذه الظاهرة؟
• بناء وعي رقمي مجتمعي: لا يمكن للرقابة وحدها أن تضع حدًا لانتشار المحتوى الهابط، بل لا بد من رفع مستوى الوعي لدى المستخدمين، وخصوصًا الشباب، ليكونوا أكثر انتقاءً لما يستهلكونه أو يشاركونه.
• المساءلة القانونية للمسيئين: على السلطات المختصة أن تطبّق قوانين تحاسب من يروج لمحتوى مخل أو مسيء أو مضلل، بما لا يتعارض مع حرية التعبير المشروعة.
• تشجيع المحتوى الهادف: دعم صنّاع المحتوى الجيد، سواء من خلال التمويل أو الترويج أو الجوائز التقديرية، يُعدّ خطوة مهمة في خلق توازن رقمي صحي.
• دور الأسرة والتعليم: على الأسرة والمدرسة أن تدمج مفاهيم التربية الرقمية في حياتها اليومية، ليكبر الأبناء وهم مدركون لما يواجهونه في العالم الافتراضي.
ختامًا:
المحتوى الهابط ليس مجرد مشكلة تقنية أو لحظة طيش من بعض الأفراد، بل هو مؤشر على تحوّلات أعمق في الثقافة الرقمية وسلوك المستخدمين. مواجهة هذه الظاهرة تتطلب منا جميعًا ـ أفرادًا ومؤسسات ـ أن نتحمل مسؤوليتنا، ونُسهم في خلق فضاء رقمي أكثر نضجًا، يحترم العقل، ويعزز القيم، دون أن يُغلق باب الحرية أو الإبداع.