الملتقى الثقافي النعماني

الأسس المنطقية لتخلّف المسلمين في ضوء فكر الشهيد السيّد محمّد باقر الصّدر

الدكتور كاظم عبد الرزاق الحسيني

في الطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا، الذي ألّفه السيّد الشهيد محمّد باقر الصّدر وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين سنة، وهو مما يدل على نبوغه المبكّر، وعبقريته الاستثنائيّة، تحدّث الشهيد الصّدر في تحليل سريع، وفي خطوط عامة تحتاج إلى تفصيل، عن أسباب تخلّف الدول العربية والإسلامية اقتصاديّاً، وقد عرض أفكاراً تصلح أن تكوّن نظرية متكاملة في هذا المجال، لا تفسّر التخلّف الاقتصادي فحسب، بل تشمل كافّة الأصعدة الأخرى: الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتفتح هذه النظرية الباب واسعا للنقد والمناقشة، وفي هذا المقال عرض لإحدى أفكاره مع إضافات وتصرّف بعبارة الكتاب.

يرى السيّد الشهيد أنّ العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية وبزوغ نجم الحضارة الغربية، “قرّر الانفتاح على الحياة الأوربية، والإذعان لإمامة الغرب الفكرية، وقيادته لموكب الحضارة، بدلا عن إيمانه برسالته الأصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية، بغض النظر عن الأسباب التي دعت إلى ذلك، وهكذا صار العالم الإسلامي تابعا للغرب بأحد شقيه: اما للمعسكر الاشتراكي، أو للمعسكر الرأسمالي.”

ومما لا شك فيه أن التبعية الاقتصادية ومحاولة مجاراة الغرب في تقدمه الصناعي والعمراني، ستستدعي أنواعاً أخرى من التبعية والتقليد، على المستوى الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وحتى على المستوى الاعتقادي، وهذا ما حصل فعلاً.
‏ وبعيدا عن تقييم الاقتصاد الرأسمالي، والاقتصاد الاشتراكي، سلباً أو إيجاباً، يؤشر الصدر إلى قضية في غاية الأهمية، وحاصلها: “أن تطبيق أي منهج من المناهج الاقتصادية لابد أن يلحظ بدقة مع الظروف الموضوعية للامة التي يطبق عليها ذلك المنهج، وأخذ تركيبها النفسي والتاريخي بعين الاعتبار، ذلك أنّ الأمة هي مجال التطبيق لتلك المناهج، وتتوقف فاعلية تطبيق المنهج ودرجة نجاحه على درجة انسجامه مع الشروط الموضوعية للأمة، ومن هنا فإنّ فاعلية الاقتصاد الرأسمالي مثلاً، وتقبّله من المجتمع الأوروبي، لا ترجع إلى منهجه النظري فحسب، بحيث أينما حصل تطبيق هذا المنهج ستحصل تلك الفاعلية وذلك التقبّل، بل إنّ فاعليته إنما تكون باعتباره جزءاً من كلٍّ مترابط مع الأمّة، وحلقة من حلقات تاريخها، وإذا عزل المنهج عن إطار الأمّة وتاريخها، لم تكن له فاعلية ولا ثمار.”

وهذا الذي يذكره الشهيد الصّدر يشمل المناهج الثقافية والاجتماعية والسياسية وليس المنهج الاقتصادي فحسب، فلا يمكن للمنهج الاقتصادي وغيره من المناهج، أن يؤدي نتائجه المطلوبة في النهوض والتقدّم، إلا إذا قام على أساس تتفاعل الأمّة وحراكها معه، فإنّ حركة الأمة شرط أساس في نجاح مناهج النهوض والتقدم.
ويبرهن الشهيد الصّدر على هذه الرؤية من خلال واقع الإنسان الأوروبي الحديث وتجربته، “فإنّها –هذه التجربة -تعبير تاريخي واضح على هذه الحقيقة، فإنه مناهج الاقتصاد الأوروبي لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوروبا الحديث الا بسبب تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج، وحركتها في كل حقول الحياة وفقا لاتجاه تلك المناهج.”

وفي ضوء هذا يقرر الشهيد الصّدر الفكرة التالية: “إنّ أي محاولة للإصلاح والتنمية للبلد والشعب، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لا بد أن تكون من خلال مناهج قادرة على تحريك الأمة، وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلّف، ولا بد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمّة ونفسيّتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة، وحيث أنّ المناهج الغربية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية تتناقض مع العقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون، والتي تشكّل الاطار النفسي والفكري لهم، فلا يمكن أن تحقق تلك المناهج فاعليتها على الأرض، ولا تتمكن من تعبئة طاقات الأمة في سياق النهوض والتقدّم، فالعقيدة الدينية على الرغم مما نالها من ضعف وتفكك ما زالت من القوة والرسوخ في أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة إلى الأشياء، وفي ضوء ما قلناه آنفاً: إنّ عملية التنمية والنضال الإصلاحي ليست عملية تمارسها الدولة وتتبنّاها وتشرّع لها فحسب، وإنّما هي عملية يجب أن تشترك فيها الأمة وتتفاعل بوعي معها، فإذا كانت الأمة تشعر بتناقض بين المنهج وبين عقيدتها التي لا تزال تعتز بها، وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة، فسوف تُحجم بمقدار تفاعلها مع تلك العقيدة عن التعاطي والاندماج مع تلك المناهج المفروضة.”

وفي ضوء تحليل الشهيد الصّدر الآنف الذكر، يمكن نفسّر سبب تعثّر المفكرين المسلمين الذين أرادوا تطبيق المناهج الفكرية واللغوية والاجتماعية التي أنتجها الغرب في نهضته، على الواقع العربي والإسلامي ظناً منهم أن التبعية المطلقة لتلك المناهج هي مفتاح النهوض والتقدم، من قبيل محمد آركون، ونصر حامد أبو زيد، وعبد الكريم سروش، من جهة تناقض تلك المناهج مع العقيدة الدينية للمسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *