الملتقى الثقافي النعماني

الشتيمة كمرآة: تاريخ الشتائم الجنسية في المجتمع العراقي بين السلطة والعار

كوثر عقيل

الشتيمة ليست انحرافاً لغوياً بل مرآة تعكس مكبوتات المجتمعات، وهي قديمة قدم اللغة. لا يُقصد بها إهانة شخص بعينه بل استدعاء تاريخ ثقيل من القهر الذكوري والرقابة الأخلاقية. تتساءل المقالة عن سبب ارتباط الشتائم بالجسد، ولماذا يكون جسد المرأة هو الميدان الأول في معارك الرجولة. ففي كل شتيمة جنسية، هناك امرأة تُغتصب رمزياً وتُباع وتُشترى في سوق الكرامات الذكورية، وتُستخدم كوسيلة لإذلال رجل وكأن قيمته مرهونة بعفة أمه أو أخته. تحاول المقالة أن تتعرى لغوياً.

الشتيمة كأداة قهر اجتماعي:

الشتيمة ليست مجرد انفلات لغوي، بل ممارسة سلطوية يُعاد من خلالها إنتاج السيطرة داخل المجتمع. لا تشتغل الشتيمة على المعنى بل على الرمز. حين تُمتهن امرأة في شتيمة، فإن جسدها لا يُقصد لذاته بل يُستخدم كـ “ساحة رمزية” لتصفية صراعات الرجال، ولترسيخ تفوق أحدهم على الآخر. وهكذا تُخترق المرأة في عضوها الجنسي، ويُختزل الشرف في إمكانية تدنيسه.

البيئة تولد الشتائم التي تستحقها:

الشتائم لا تولد من فراغ بل تتغذى على طبيعة المجتمع وثقافته. في القبائل البدوية أو القبلية، حيث تعد الكرامة والسمعة أعلى من القانون، تنتشر الشتائم التي تمس العائلة والنساء والأنساب. في المدن الصناعية، تكون الشتائم أكثر فردانية وغالباً ما تتعلق بالغباء والإذلال الوظيفي. أما في الأنظمة القمعية، فتتحول الشتائم إلى مقاومة مبطنة، تسخر من السلطة، تتهكم على الدين أو تتحدى تابوهات الجنس لتتحول إلى لغة تحررية في جلد السلطة والمجتمع معاً.

متى بدأ الإنسان يشتم؟

الشتيمة قد تكون أقدم من الصلاة. أول شتيمة جنسية مدونة في التاريخ وجدت في لوح سومري يعود لأكثر من 4000 سنة، وفيها دلالة واضحة على أن القدح بالرجولة كان شتيمة شائعة. في ملحمة جلجامش، يُتهم إنكيدو بالبغاء والأنوثة قبل أن يظهر بجسد امرأة. في مصر القديمة، كانت الشتائم تدور حول الطهارة وكانت تُستخدم في السحر المضاد واللعنات. في العصور الإغريقية، استُخدمت الشتائم لإذلال الخصم عبر الجنس، خاصة باتهامه بال “تلقي” (السلبية الجنسية) لأنه يُعد فعلاً أنثوياً.

الشتيمة كتنفيس نفسي ومرآة للهوية المجروحة:
الشتيمة ليست فقط أداة إيذاء بل في الكثير من الأحيان وسيلة دفاعية، يلجأ الإنسان إليها عندما تضيق عليه اللغة العقلانية، وتفشل الكلمات المهذبة في التعبير عن غضبه أو عجزه. نفسياً، الشتيمة تُنتج لحظة تفريغ داخلي تجعل الفرد يشعر بقوة وهمية في وجه واقع لا يستطيع تغييره، أو مجتمع لا يسمعه إلا إذا صرخ. لهذا، لا تكون الشتائم موجهة نحو الآخر فقط بل أحياناً نحو الذات أيضاً، فالشتام قد يلعن جسده أو أهله أو حياته لأنه يشعر بالاختناق. إن الشتيمة تعبر عن هوية مجروحة، عن إحساس دفين بالإهانة، وعن رغبة في إعادة السيطرة عن طريق الكلمة العنيفة. في المجتمعات التي تعاني من القمع، يتحول اللسان إلى سلاح، لأن الأيدي مكبلة، والشتيمة تصبح نوعاً من المقاومة النفسية ضد الخضوع، وإن كانت مشوهة.

الشتيمة في الشارع العراقي :
في الشارع العراقي، الشتيمة ليست فقط تعبيراً عن الغضب، بل أسلوب حياة، ونظام تواصل غير رسمي خصوصاً في الأحياء الشعبية، والبيئات الذكورية المشحونة بالتوتر. تشيع عبارات مثل “أختك، أمك، عرضك، شرفك” مما يعكس الارتباط العميق بين الرجولة والجسد الأنثوي، حيث يُقاس احترام الرجل بمدى قدرة الآخرين على امتهان نسائه لغوياً. لا تقال الشتائم فقط في لحظات الغضب، بل أحياناً كنوع من المزاح العنيف، أو إثبات الهيمنة في الحوار. اللافت أن الشتائم العراقية غالباً تتجه نحو الأسرة والكرامة لا نحو الفعل أو السلوك، ما يدل على مجتمع يُقيّم الإنسان حسب أصله وفصله لا حسب فعله. هذه اللغة العنيفة هي أيضاً نتيجة تراكمات من حروب لا تنتهي، وفقر، وانقطاع سياسي وشعور عام بالخذلان جعل العراقي يُحمّل الكلمات طاقة العنف التي لا يملك تفريغها بوسائل أخرى. الشتيمة هنا ليست فقط ضد الآخر بل ضد الزمن الضائع، ضد الواقع الخانق الذي لا يصلح إلا بالصراخ.
في النهاية، ليست الشتيمة مجرد خلل لغوي أو انفلات أخلاقي، بل انعكاس حي لصراعات المجتمع ومخاوفه المكبوتة، ومرآة تُظهر من نكون، لا من نسب. كل شتيمة تحمل تاريخاً من العنف، ومن الرموز، ومن الجروح التي لم تُشفَ. وحين نمعن النظر فيها، لا نكشف الآخر بل أنفسنا.

ماذا نفعل لتنتهي هذه الظاهره ..؟

يمكن تعزيز الثقافة والوعي من خلال نشر ثقافة الاحترام والتعايش السلمي عن طريق التعليم والإعلام. كما يمكن تعديل القوانين من خلال سن قوانين صارمة لمكافحة الشتائم والعنف اللفظي. التدخل المبكر في تعليم الأطفال مهارات التواصل الفعال وحل المشكلات بطرق سلمية يمكن أن يقلل من انتشار الشتائم.

دعم الأسرة وتعزيز دورها في تعليم القيم والأخلاق الحميدة يلعب دوراً هاماً في تشكيل سلوك الأبناء. توفير الدعم النفسي للأفراد الذين يعانون من مشاكل سلوكية يمكن أن يساعدهم على التغلب على هذه المشاكل. تشجيع الحوار البناء والاحترام المتبادل في المجتمع يمكن أن يقلل من الشتائم والعنف اللفظي.

استخدام اللغة الإيجابية والمهذبة في التواصل اليومي يمكن أن يساهم في خلق بيئة أكثر احتراماً. توفير بدائل للتعبير عن الغضب أو الإحباط، مثل الرياضة أو الفن، يمكن أن يقلل من اللجوء إلى الشتائم. تعزيز الشعور بالمسؤولية المجتمعية والعمل الجماعي لمكافحة الشتائم يمكن أن يساعد في خلق مجتمع أكثر تماسكاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *